لغةُ الضاد: ذاكرةُ المعنى ورهانُ المستقبل

Spread the love

يحل اليوم العالمي للغة العربية في الثامن عشر من دجنبر من كل عام، لا بوصفه محطة احتفالية عابرة، بل باعتباره لحظة كاشفة تستدعي المراجعة والتأمل، وتفتح أفق السؤال حول موقع العربية في عالم سريع التحول، تتنازع لغاته قوى العولمة والمعرفة والتكنولوجيا. فاللغة العربية، بما راكمته من تراث حضاري ومعرفي، ليست مجرد أداة للتواصل، بل نظام رمزي متكامل، ووعاء للهوية، وذاكرة جمعية صاغت وجدان أمة وأسهمت في بناء العقل الإنساني عبر قرون.

لقد ارتبطت العربية، منذ تشكلها التاريخي، بمسارات العلم والفكر والفلسفة، وكانت في عصور ازدهارها لغة إنتاج معرفي لا ترجمة فحسب، ولغة ابتكار لا نقل فقط. ففي ظلها نمت علوم اللسان والفقه والفلك والطب، وتأسست تقاليد صارمة في التصنيف والشرح والتحليل، ما جعلها لغة قادرة على استيعاب المفاهيم المجرّدة والتعبير عن أدق التمثلات الذهنية. وهذا المعطى التاريخي ليس مدعاةً للاكتفاء بالحنين، بل حافزٌ لإعادة تفعيل شروط النهوض في سياق معاصر مختلف الأدوات والرهانات.

غير أن العربية اليوم تواجه تحديات مركبة، لعل أبرزها التراجع الوظيفي في مجالات البحث العلمي والتقني، وضعف السياسات اللغوية الداعمة لاستعمالها في التعليم العالي والإنتاج المعرفي، إلى جانب هيمنة اللغات الأجنبية في الفضاء الرقمي وسوق الشغل. كما يضاف إلى ذلك إشكال الازدواجية اللغوية، وما تفرزه من ارتباك في الممارسة التعليمية والتواصلية، حين تنفصل لغة المدرسة عن لغة المجتمع، ولغة المعرفة عن لغة التداول اليومي.

إن مقاربة هذه الإشكالات تقتضي الانتقال من خطاب الدفاع العاطفي إلى منطق التدبير الاستراتيجي. فالعربية لا تُحمى بالشعارات، بل بسياسات لغوية واضحة، وبإدماجها الفعلي في البحث العلمي، وبجعلها لغة إنتاج في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وقابلة، في الآن ذاته، للتحديث الاصطلاحي والتقني في مجالات العلوم الدقيقة. كما أنّ الرهان الرقمي يظلّ حاسما؛ إذ لا مستقبل للغة خارج الفضاء الرقمي، ولا حضور فاعل لها دون استثمار جاد في المعالجة الآلية، والترجمة الذكية، وصناعة المحتوى الرصين.

وفي هذا السياق، يضطلع المثقف والباحث بدور محوري، لا باعتباره حارسًا للماضي، بل فاعلا في الحاضر، يسائل اللغة من داخلها، ويجدّد أدوات الاشتغال بها، ويعيد وصلها بقضايا العصر. فالعربية تمتلك من المرونة والثراء ما يؤهلها لاستيعاب التحولات، شريطة أن تُمنح فرصة الاستعمال المنتج، وأن يُعاد الاعتبار لتدريسها بوصفها لغة تفكير وبناء معرفة، لا مادة مدرسية جامدة.

إن اليوم العالمي للغة العربية مناسبة لتجديد العهد مع لغة لم تفقد قدرتها على الحياة، لكنها تنتظر إرادة واعية تُحسن توجيهها. هي لغة لا تعيش على أمجادها، بل تستمد مشروعيتها من قدرتها على أن تكون لغة الحاضر والمستقبل، لغة تُنصت للعالم وتُحاوره، وتكتب ذاتها في أفق إنساني مفتوح، حيث لا تعارض بين الأصالة والتحديث، ولا قطيعة بين الهوية والكونية.

أحمد بنطالب

Related posts

Leave a Comment